الأحد، 8 فبراير 2015

لا يريدون الجنة ولا النار ويستهزؤن بهما


وأما المتصوفة فلا يرون الأمر كذلك , فلا الدنيا عندهم ولا الآخرة , ولا الخوف ولا الطمع , ولا الجنة ولا النار , بل كثيراً ما يستهزؤن بها ويسخرون بذكرها , فنقلوا عن رابعة العدوية البصرية أنها كانت تنشد :

" يعبدون الله خوفاً من لظى       فلظى قد عبدوا  لا ربنـا
         ولدار الخلد صلّوا , لا لــه       شبه قوم يعبدون الوثنا " [1] .

وذكرها العطار فقال :

" جاء إليها رجال من أهل الله فسألت أحدهم : لماذا تعبد الله ؟

فقال : خوفاً من عقابه والجحيم التي برزت للغاوين .

فسألت الآخر فقال : طمعاً في جنته التي أعدت للمتقين .

فقالت : أما أنا فما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعا في جنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حباً له وشوقاً إليه " [2] .
وورد مثل هذا في روضة التعريف بالحب الشريف أيضاً [3] .
وروى الجلمي عنها أنها قالت :

" وعزتك ما عبدتك خوفاً من نارك ولا رغبة في جنتك , بل كرامة لوجهك الكريم ومحبة فيك " [4] .

وعلى ذلك قال المنوفي الحسيني بعد ذكر رابعة العدوية , وجويرية , ورابعة الدمشقية وغيرهن : " أولئك اللواتي طمعن في رحمة الله وأحببته لا رهبة من عقابه , ولا طمعاً في ثوابه " [5] .

وأنشدت أيضاً :

أحبك حبين حب الـــهوى       وحباً لأنك أهـــل لذاكـــــــا
  فأما الذي هو حبّ الهوى       فشغلي بذكرك عمّن سواكا [6]

وذكر ابن عجيبة الحسني أنها قالت :

كلهم يعبدونه من خــــــــوف نــــار       ويــرون النـــجاة حظاً جزيــــلا
أو بأن يسكنوا الجنــــــان فيضحوا        في رياض ويشربوا السلسلبيلا
  ليس لي في في الجنان والنار رأي        أنا لا أبـــتغي بحبي بديـــــــــلا [7]

وأكثر من ذلك ما نقله كل من القشيري والعطار والكلاباذي والكمشخانوي وغيرهم :

" مرضت رابعة العدوية فقيل لها :

ما سبب علّتك ؟

فقالت : نظرت إلى الجنة بقلبي فغار عليّ قلبي , فأدبني وقد آليت وحلفت أن لا أعود " [8] .

وليس هذا الإستغناء عن الجنة والخوف والرهبة , فحسب بل أكثر من ذلك نقل الشعراني استهزاءها بالجنة ونعيمها , والقرآن الكريم , فيقول :
" سمعت رابعة العدوية رضي الله عنها شخصا يتلو قوله عز وجل ﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴿٢٠﴾ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ قالت : نحن إذن  صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير " [9] .

وليست رابعة العدوية وحدها من ينقلون عنها استغناءها عن الجنة واستحقار ذكرها , وعدم اهتمامها بالخوف والرجاء , والرهبة والرغبة , بل هذا هو موقفهم ومشربهم , فينقلون ذلك عن الآخرين أيضاّ , فيقول السلمي والهجويري والسهلجي والمنوفي الحسيني :

" إن أبا يزيد البسطامي الذي قال فيه الجنيد البغدادي كما يروون : أبو يزيد منا بمنزلة جبريل من الملائكة [10] .

فكان يقول : " الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة , وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم " [11] .
ونقل ابن العريف عنه أيضاً أنه كان يسخر بالثواب ولم يكن يبالي بالعقاب , وكان يقول مخاطبا للرب تعالى :

" أريدك لا أريدك للثواب     ولكني أريدك للعقاب " [12] .
وكان يستهزئ بالجنة بقوله :

" لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضجّ أهل النار من النار " [13] .

وقال أيضاً في هذا المعنى :

" من عرف الله صار للجنة ثواباً , وصارت الجنة عليه وبالا " [14] .

كما كان يستهزئ بالنار , فينقل عنه أنه كان يقول :

" وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على باب جهنم . فسأله رجل : ولم ذاك يا أبا يزيد ؟

فقال : إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد [15] .

وأخيراً ما ذكر عنه السهلجي في ازدرائه واستصغاره الجنة حيث يروي عن ابن أخي أبي يزيد أنه قال :

" حدّثني أبي عن أبيه عن أبي يزيد أنه جاء حاتم الأصمّ زائراً له فقال حاتم : قد قلت لتلامذتي : من لم يكن منكم يوم  القيامة شفيعاً في أهل النار فيدخلهم الجنة لم يكن لي تلميذاً . فقال له أبو يزيد : ولكن قد قلت أنا لهم :

 ليس من تلاميذي إلا من وقف يوم القيامة , فكل من أمر من الموحدين إلى النار أخذ بيده وأدخله الجنة " [16] .

ومثل ذلك نقلوا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يستهزئ بنعيم الجنة بدعائه :

" اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة " [17] .
والشبلي الذي قال عنه الجنيد : " لكل قوم تاج , وتاج هذا القوم الشبلي " [18] .

ينقلون عن تاج قومهم هذا أنه كان يدعو : " اللهم أخبأ الجنة والنار خبايا غيبك حتى تعبد بغير واسطة " [19] .

ومن استهزائهم بالجحيم ونيرانها أنه قال في مجلسه :

" إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفوها " [20] .

وكذلك كان يقول : " لو خطر على بالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشركاً " [21] .

ومن استخفافه بوعيد أهل النار أنه سمع قارئاً يقرأ هذه الآية ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ فقال الشبلي :

" ليتني كنت واحداً منهم " [22] .

وأما معروف الكرخي فيروون عنه " أنه عبد الله لا خوفاً من ناره , ولا شوقاً إلى جنته , فلذلك رؤى في النوم في حظيرة القدس جالساً في سرادق العرش شاخصاً ببصره ينظر إلى الله " [23] .
هذا وقد ذكر السهلجي حكاية عن أبي موسى تدل على استخفاف الصوفية بالجنة ونيلهم من شأنها وعظمتها فيقول :

" يؤتى يوم القيامة برجل من طريق النار على حالة أحسن ما يكون , فيراد أن يزداد الذي يؤتي من طريق النار ألما ووجعا فيقال له : ترى ذاك الذي يحمل إلى الجنة بتلك الزينة ؟ وهو فلان . فيقول نعم , كنت سمعت أسمه في دار الدنيا . قال فيبلغ الله صوته ذلك الولي فيقف مكانه فيقال له : لم لا تذهب ؟ فيقول : لا أبرح من مكاني حتى يكون معي من سمع باسمي ,  قال : فينادى : وهبناه منك , خذ بيده وأذهب به إلى الجنة – وكان الشيخ أبو عبد الله يقول إذا حكى هذه الحكاية : فيقول : هذا لمن سمع الإسم , فكيف لمن رأى وصحب " [24] .

فالمعنى أنهم استصغروا شأن الجنة ومقامها , وجعلوا دخولها من الأمور الهينة لا تحتاج إلى كثير عناء ومشقة , بل يكفي أن يسمع الإنسان أسم وليّ من أولياء الصوفية , وحسبه ذلك من دخول الجنة والبعد عن النار .

وأكثر من ذلك أنهم نقلوا عنه أنه قال :

" ما النار ؟
لأستندن إليها , وأقول : اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها .

ما الجنة ؟

لعبة صبيان " [25] .

ومن احتقارهم الجنة ما رووه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول :

" لو أتاني آت من ربي عز وجل فقال : أنت مخيّر بين الجنة والنار أو تصير تراباً لاخترت أن أصير تراباً " [26] .

وذكروا عن سليمان الداراني أنه قال :

" إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة " [27] .





مع أن الله عز وجل ولم يفرّق بين إرادة الآخرة وإرادته هو سبحانه تعالى حيث قال : ﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [28] .

فإرادة الآخرة نفس إرادة الله لا فرق بينهما .

ومدح الله تعالى عباده الذين يريدون الآخرة ويسعون لها بقوله :

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [29] .

وجمع الله بين إرادته ورسوله والدار الآخرة في قوله : ﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [30] .



[1] ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 49 ط   المطبعة العامرية 1301هـ .
[2] تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 42 .
[3] أنظر روضة التعريف لوزير الدين بن الخطيب ص 427 .
[4] نفحات الأنس للجامي ( فارس ) ص 544 ط  إيران .
[5] جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج1 ص 270 .
[6] التعرف لمذهب أهل التصوف ص 131 , 132 , قوت القلوب لأبي طالب المكي ص 57 أيضاً روضة التعريف ص 427 , أيضاً نشر المحاسن الغالية لليافي ج 1 ص   بعاصر جامع كروان كرامات الأولياء للشعراني ط   دار صادر بيروت .
[7] إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 32 ط   مصطفى الباب , أيضا هامش المعارضة والرد لمحمد كمال جعفر ص 137 .
[8] أنظر الرسالة القشيرية ج 2 ص  516 , أيضا تذكرة الأولياء للعطار ص 34 , أيضا التعرف لمذهب أهل التصوف ص 184 , أيضا جامع أصول الأولياء للكمشخانوي ص 119 واللفظ له .
[9] الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 71 .
[10] كشف المحجوب للهجويري ص 313 .
[11] طبقات الصوفية للسلمي ص 19 , كشف المحجوب للهجويري ص 318 , جمهرة الأولياء للمنوفي ج 2 ص 139 أنظر النور في كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 169 نشر الدكتور البدوي ط   الكويت .
[12] محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن محمد الصوفي الصنهاجي بن العريف ط   باريس 1933م  أيضا شرح كلمات الصوفية جمع محمود محمد الغراب ص 180 .
[13] النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 147 .
[14] أيضاً ص 118 .
[15] أيضاً ص 147 .
[16] النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 98 , 99 .
[17] جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 2 ص 130 .
[18] نفحات الأنس للجامي ص 180 .
[19] كشف المحجوب للهجويري ص 577 ط  دار النهضة العربية بيروت .
[20] أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 491 .
[21] أيضاً ص 490 .
[22] اللمع للطوسي ص 490 .
[23] قوت القلوب لأبي المكي ج  2 ص  56 .
[24] النور من كلمات أبي طيفور ص 68 .
[25] مجموع نصوص غير منشورة عن أبي يزيد ص 31 نقلا عن " شطحات الصوفية " للدكتور عبد الرحمن بدوي ط   الكويت .
[26] طبقات الشعراني ج 1 ص 33 .
[27] كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي  ص 107 ط .
[28] سورة الأنفال الآية 67 .
[29] سورة الإسراء الآية 19 .
[30] سورة الأحزاب الآية 29 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.