وأما
المتصوفة فلا يرون الأمر كذلك , فلا الدنيا عندهم ولا الآخرة , ولا الخوف ولا
الطمع , ولا الجنة ولا النار , بل كثيراً ما يستهزؤن بها ويسخرون بذكرها , فنقلوا
عن رابعة العدوية البصرية أنها كانت تنشد :
" يعبدون الله خوفاً من
لظى فلظى قد عبدوا لا ربنـا
ولدار الخلد صلّوا , لا لــه شبه قوم يعبدون الوثنا " [1] .
وذكرها
العطار فقال :
"
جاء إليها رجال من أهل الله فسألت أحدهم : لماذا تعبد الله ؟
فقال
: خوفاً من عقابه والجحيم التي برزت للغاوين .
فسألت
الآخر فقال : طمعاً في جنته التي أعدت للمتقين .
فقالت
: أما أنا فما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعا في جنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته
حباً له وشوقاً إليه " [2] .
وورد
مثل هذا في روضة التعريف بالحب الشريف أيضاً [3] .
وروى
الجلمي عنها أنها قالت :
"
وعزتك ما عبدتك خوفاً من نارك ولا رغبة في جنتك , بل كرامة لوجهك الكريم ومحبة فيك
" [4] .
وعلى
ذلك قال المنوفي الحسيني بعد ذكر رابعة العدوية , وجويرية , ورابعة الدمشقية
وغيرهن : " أولئك اللواتي طمعن في رحمة الله وأحببته لا رهبة من عقابه , ولا
طمعاً في ثوابه " [5] .
وأنشدت
أيضاً :
أحبك حبين حب الـــهوى وحباً لأنك أهـــل لذاكـــــــا
فأما الذي هو حبّ الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا [6]
وذكر
ابن عجيبة الحسني أنها قالت :
كلهم يعبدونه من خــــــــوف
نــــار ويــرون النـــجاة حظاً
جزيــــلا
أو بأن يسكنوا الجنــــــان
فيضحوا في رياض ويشربوا السلسلبيلا
ليس لي في في الجنان والنار رأي أنا لا أبـــتغي بحبي بديـــــــــلا [7]
وأكثر
من ذلك ما نقله كل من القشيري والعطار والكلاباذي والكمشخانوي وغيرهم :
"
مرضت رابعة العدوية فقيل لها :
ما
سبب علّتك ؟
فقالت
: نظرت إلى الجنة بقلبي فغار عليّ قلبي , فأدبني وقد آليت وحلفت أن لا أعود "
[8] .
وليس
هذا الإستغناء عن الجنة والخوف والرهبة , فحسب بل أكثر من ذلك نقل الشعراني
استهزاءها بالجنة ونعيمها , والقرآن الكريم , فيقول :
"
سمعت رابعة العدوية رضي الله عنها شخصا يتلو قوله عز وجل ﴿ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ ﴿٢٠﴾ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ ﴾
قالت : نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة
والطير " [9]
.
وليست
رابعة العدوية وحدها من ينقلون عنها استغناءها عن الجنة واستحقار ذكرها , وعدم
اهتمامها بالخوف والرجاء , والرهبة والرغبة , بل هذا هو موقفهم ومشربهم , فينقلون
ذلك عن الآخرين أيضاّ , فيقول السلمي والهجويري والسهلجي والمنوفي الحسيني :
"
إن أبا يزيد البسطامي الذي قال فيه الجنيد البغدادي كما يروون : أبو يزيد منا
بمنزلة جبريل من الملائكة [10] .
فكان
يقول : " الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة , وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم
" [11] .
ونقل
ابن العريف عنه أيضاً أنه كان يسخر بالثواب ولم يكن يبالي بالعقاب , وكان يقول
مخاطبا للرب تعالى :
" أريدك لا أريدك
للثواب ولكني أريدك للعقاب " [12] .
وكان
يستهزئ بالجنة بقوله :
"
لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضجّ أهل النار من النار "
[13] .
وقال
أيضاً في هذا المعنى :
"
من عرف الله صار للجنة ثواباً , وصارت الجنة عليه وبالا " [14] .
كما
كان يستهزئ بالنار , فينقل عنه أنه كان يقول :
"
وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على باب جهنم . فسأله رجل : ولم ذاك يا أبا
يزيد ؟
فقال
: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد [15] .
وأخيراً
ما ذكر عنه السهلجي في ازدرائه واستصغاره الجنة حيث يروي عن ابن أخي أبي يزيد أنه
قال :
"
حدّثني أبي عن أبيه عن أبي يزيد أنه جاء حاتم الأصمّ زائراً له فقال حاتم : قد قلت
لتلامذتي : من لم يكن منكم يوم القيامة
شفيعاً في أهل النار فيدخلهم الجنة لم يكن لي تلميذاً . فقال له أبو يزيد : ولكن
قد قلت أنا لهم :
ليس من تلاميذي إلا من وقف يوم القيامة , فكل من
أمر من الموحدين إلى النار أخذ بيده وأدخله الجنة " [16] .
ومثل
ذلك نقلوا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يستهزئ بنعيم الجنة بدعائه :
"
اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة " [17] .
والشبلي
الذي قال عنه الجنيد : " لكل قوم تاج , وتاج هذا القوم الشبلي " [18] .
ينقلون
عن تاج قومهم هذا أنه كان يدعو : " اللهم أخبأ الجنة والنار خبايا غيبك حتى
تعبد بغير واسطة " [19] .
ومن
استهزائهم بالجحيم ونيرانها أنه قال في مجلسه :
"
إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفوها " [20] .
وكذلك
كان يقول : " لو خطر على بالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت
مشركاً " [21]
.
ومن
استخفافه بوعيد أهل النار أنه سمع قارئاً يقرأ هذه الآية ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾
فقال الشبلي
:
"
ليتني كنت واحداً منهم " [22] .
وأما
معروف الكرخي فيروون عنه " أنه عبد الله لا خوفاً من ناره , ولا شوقاً إلى
جنته , فلذلك رؤى في النوم في حظيرة القدس جالساً في سرادق العرش شاخصاً ببصره
ينظر إلى الله " [23] .
هذا
وقد ذكر السهلجي حكاية عن أبي موسى تدل على استخفاف الصوفية بالجنة ونيلهم من
شأنها وعظمتها فيقول :
"
يؤتى يوم القيامة برجل من طريق النار على حالة أحسن ما يكون , فيراد أن يزداد الذي
يؤتي من طريق النار ألما ووجعا فيقال له : ترى ذاك الذي يحمل إلى الجنة بتلك
الزينة ؟ وهو فلان . فيقول نعم , كنت سمعت أسمه في دار الدنيا . قال فيبلغ الله
صوته ذلك الولي فيقف مكانه فيقال له : لم لا تذهب ؟ فيقول : لا أبرح من مكاني حتى
يكون معي من سمع باسمي , قال : فينادى :
وهبناه منك , خذ بيده وأذهب به إلى الجنة – وكان الشيخ أبو عبد الله يقول إذا حكى
هذه الحكاية : فيقول : هذا لمن سمع الإسم , فكيف لمن رأى وصحب " [24] .
فالمعنى
أنهم استصغروا شأن الجنة ومقامها , وجعلوا دخولها من الأمور الهينة لا تحتاج إلى
كثير عناء ومشقة , بل يكفي أن يسمع الإنسان أسم وليّ من أولياء الصوفية , وحسبه
ذلك من دخول الجنة والبعد عن النار .
وأكثر
من ذلك أنهم نقلوا عنه أنه قال :
"
ما النار ؟
لأستندن
إليها , وأقول : اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها .
ما
الجنة ؟
لعبة
صبيان " [25]
.
ومن
احتقارهم الجنة ما رووه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول :
"
لو أتاني آت من ربي عز وجل فقال : أنت مخيّر بين الجنة والنار أو تصير تراباً
لاخترت أن أصير تراباً " [26] .
وذكروا
عن سليمان الداراني أنه قال :
"
إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة " [27] .
مع
أن الله عز وجل ولم يفرّق بين إرادة الآخرة وإرادته هو سبحانه تعالى حيث قال : ﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [28] .
فإرادة
الآخرة نفس إرادة الله لا فرق بينهما .
ومدح
الله تعالى عباده الذين يريدون الآخرة ويسعون لها بقوله :
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [29] .
وجمع
الله بين إرادته ورسوله والدار الآخرة في قوله : ﴿ وَإِنْ
كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [30] .
[1] ترصيع الجواهر المكية لعبد
الغني الرافعي ص 49 ط المطبعة العامرية
1301هـ .
[2] تذكرة الأولياء لفريد
الدين العطار ص 42 .
[3] أنظر روضة التعريف لوزير
الدين بن الخطيب ص 427 .
[4] نفحات الأنس للجامي ( فارس
) ص 544 ط إيران .
[5] جمهرة الأولياء للمنوفي
الحسيني ج1 ص 270 .
[6] التعرف لمذهب أهل التصوف ص
131 , 132 , قوت القلوب لأبي طالب المكي ص 57 أيضاً روضة التعريف ص 427 , أيضاً
نشر المحاسن الغالية لليافي ج 1 ص بعاصر
جامع كروان كرامات الأولياء للشعراني ط
دار صادر بيروت .
[7] إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص
32 ط مصطفى الباب , أيضا هامش المعارضة
والرد لمحمد كمال جعفر ص 137 .
[8] أنظر الرسالة القشيرية ج 2
ص 516 , أيضا تذكرة الأولياء للعطار ص 34
, أيضا التعرف لمذهب أهل التصوف ص 184 , أيضا جامع أصول الأولياء للكمشخانوي ص 119
واللفظ له .
[9] الطبقات الكبرى للشعراني ج
2 ص 71 .
[10] كشف المحجوب للهجويري ص
313 .
[11] طبقات الصوفية للسلمي ص 19
, كشف المحجوب للهجويري ص 318 , جمهرة الأولياء للمنوفي ج 2 ص 139 أنظر النور في
كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 169 نشر الدكتور البدوي ط الكويت .
[12] محاسن المجالس لأبي العباس
أحمد بن محمد الصوفي الصنهاجي بن العريف ط
باريس 1933م أيضا شرح كلمات
الصوفية جمع محمود محمد الغراب ص 180 .
[13] النور من كلمات أبي طيفور
للسهلجي ص 147 .
[14] أيضاً ص 118 .
[15] أيضاً ص 147 .
[16] النور من كلمات أبي طيفور
للسهلجي ص 98 , 99 .
[17] جمهرة الأولياء لأبي الفيض
المنوفي الحسيني ج 2 ص 130 .
[18] نفحات الأنس للجامي ص 180
.
[19] كشف المحجوب للهجويري ص
577 ط دار النهضة العربية بيروت .
[20] أنظر كتاب اللمع للطوسي ص
491 .
[21] أيضاً ص 490 .
[22] اللمع للطوسي ص 490 .
[23] قوت القلوب لأبي المكي
ج 2 ص
56 .
[24] النور من كلمات أبي طيفور
ص 68 .
[25] مجموع نصوص غير منشورة عن
أبي يزيد ص 31 نقلا عن " شطحات الصوفية " للدكتور عبد الرحمن بدوي
ط الكويت .
[26] طبقات الشعراني ج 1 ص 33 .
[27] كفاية الأتقياء ومنهاج
الأصفياء للدمياطي ص 107 ط .
[28] سورة الأنفال الآية 67 .
[29] سورة الإسراء الآية 19 .
[30] سورة الأحزاب الآية 29 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.