الأحد، 8 فبراير 2015

المكاسب والتوكل


" من طلب معاشا فقد ركن إلى الدنيا " [1] .

وأبو نصر السراج الطوسي الذي أقر بكون التكسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي نقل عن ذي النون المصري أنه قال :
" إذا طلب العرف المعاش فهو لاشيء " [2] .

كما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه بطلب المعاش [3] .

ظنا منه بأن " الكسب رخصة وأباحه لمن لم يطلق حال التوكل " [4] .

وهذا غلط وفاسد لأن التوكل ليس معناه الترك , بل معناه الجد والعزم , ثم الإعتماد على الله بأنه وحده يثمر الجهود ويقللها من النجاح , لا الإنسان , وهذا معنى قوله ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [5] .

ولكن ابن محمد الشطا الدمياطي يقول :

" أترك الكسب حال كونك متجرداً عن الأهل والأولاد " [6] .

وذكر السهروردي عن أبي يزيد البسطامي أنه قيل له : ما نراك تشتغل بالكسب ؟
فمن أين معاشك ؟

فقال : مولاي يرزق الكلب والخنزير تراه لا يرزق أبا يزيد [7] .

ويقول السهروردي أيضا :

" إذا كمل شغل الصوفي بالله وكمل زهده لكمال تقواه بحكم الوقت عليه بترك التسبّب [8] .

ونقل عبد الرحمن الجامي الصوفي الفارسي الكبير عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لشخص أتريد أن تكون وليا من أولياء الله ؟

فقال : نعم .

فقال له : لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة [9] .

وذكر الفيتوري عن فتح الله بوراس القيرواني أنه كان من أهل التوكل ولا يكتسب من الدنيا شيئا , ولا قبضت يده منجلا يحصد به الزرع , ولا جعل محراثا يحرث في أرض بادية ولا حاضرة ولا وجبت عليه زكاة الفطر قط  [10].


وقال ابن عجيبة الحسني :

" التصوف مبني على ثلاث خصال : التمسك بالفقر والافتقار , والتحقق بالبذل والإيثار , وترك التدبير والاختيار .... والصوفي الصادق علامته أن يفتقر بعد الغنى , ويذل بعد العز , ويخفى بعد شهرة " [11] .

ونقل الجامي عن إبراهيم الهروي أنه قال :

" من أراد أن يبلغ كل الشرف فليختر سبعا على سبع : الفقر على الغنى , والجوع على الشبع , والدون على المرتفع , والذل على العز , والتواضع على الكبر , والحزن على الفرح , والموت على الحياة " [12] .







والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا تعد ولا تحصى , نذكر منها ما رواه المقداد بن معد يكرب أنه قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يديه , وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يديه ) [13] .

وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

( إن أطيب ما أكلتم , من كسبكم , وأن أولادكم من كسبكم ) [14] .

وقال صلى الله عليه وسلم :
( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه , وولده من كسبه ) [15] .

وعن رافع بن خديج أنه قال :
قيل يا رسول الله , أي الكسب أطيب ؟

قال : ( عمل الرجل بيده , وكل بيع مبرور ) [16] .

وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) [17] .

وأخيرا ما رواه الزبير بن العوام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكفّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس , أعطوه أو منعوه ) [18] .

وفي هذا المعنى ما رواه أبو داود وابن ماجة أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله , فقال : أما في بيتك شيء ؟
فقال : بلى , حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه , وقعب نشرت فيه من الماء , قال : أئتني بهما , فأتاه بهما , فأخذهما رسول الله بيده وقال : من يشتري هذين ؟

قال رجل : أنا آخذهما بدرهم , قال : من يزيد على درهم ؟ مرتين أو ثلاثا , قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين , فأعطاهما إياه . فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري , وقال : أشتر بأحدهما طعاما فأنبذه إلى أهلك , وأشتر بالآخر قدوما , فأتني به , فأتاه به , فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده , ثم قال : أذهب فاحتطب وبع , و لا أرينك خمسة عشر يوماً , فذهب الرجل يحتطب ويبيع , فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم فأشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة , إن المسألة  لاتصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع , أو لذي غرم مفظع , أو لذي دم موجع ) [19] .

وعن أبي سعيد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ) [20] .

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( لا حسد إلا في أثنتين : رجل أعطاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار , ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار ) [21] .

وعن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة ) [22] .

وعن أبي هريرة قال : يا رسول الله , أي الصدقة أفضل ؟

قال : ( جهد المقل وأبدأ بمن تعول ) [23] .

فهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه في فضل الكسب والمكتسب , وهو أزهد العالمين وأتقاهم لله , وقد أقر بذلك الطوسي حيث قال :

" إن التكسب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , نقل عن سهل بن عبد الله أنه قال : من طعن على لاكتساب فقد طعن على السنة , كما نقل عن عبد الله بن المبارك أنه كان يقول : لا خير فيمن لا يذوق ذل المكاسب,  وأيضا مكاسبك لا تمنعك عن التفويض والتوكل إذا لم تضيعها في كسبك " [24] .



[1] عوراف المعارف للسهروردي ص 165 .
[2] كتاب اللمع للطوسي  ص 162 .
[3] أيضا ص 184 .
[4] أيضا ص 524 .
[5] سورة آل عمران الآية 159 .
[6] كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء لأبي بكر محمد الشطا الدمياطي ط   دار الكتب العربية مصر .
[7] عوارف المعارف للسهروردي ص 159 , أيضا كفاية الأتقياء للدمياطي ص 28 .
[8] عوارف المعارف للسهروردي ص 153 .
[9] نفحات الأنس للجامي ص 6 طبعة فارسية إيران  1337 هجري قمري .
[10] الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 74 ط   مكتبة النجاح طرابلس 1976م .
[11] إيقاظ الهمم في شرح الحكم لأبن عجيبة الحسني ص 4 ط البابي الحلبي القاهرة 1982م .
[12] نفحات الأنس للجامي ص 45 .
[13] رواه البخاري .
[14] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه .
[15] رواه أبو داود ومثله في الدارمي .
[16] رواه أحمد 8
[17] رواه الترمذي والحاكم والدارمي واللفظ له .
[18] رواه البخاري .
[19] مشكاة المصابيح ج1 ص 581 .
[20] رواه مسلم .
[21] متفق عليه .
[22] متفق عليه .
[23] رواه أبو داود .
[24] أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 259 ط   دار الكتب الحديثة 1960 م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.