" من طلب معاشا فقد ركن إلى
الدنيا " [1]
.
وأبو
نصر السراج الطوسي الذي أقر بكون التكسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي
نقل عن ذي النون المصري أنه قال :
"
إذا طلب العرف المعاش فهو لاشيء " [2] .
كما
ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه بطلب المعاش [3] .
ظنا
منه بأن " الكسب رخصة وأباحه لمن لم يطلق حال التوكل " [4] .
وهذا
غلط وفاسد لأن التوكل ليس معناه الترك , بل معناه الجد والعزم , ثم الإعتماد على
الله بأنه وحده يثمر الجهود ويقللها من النجاح , لا الإنسان , وهذا معنى قوله ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ [5] .
ولكن
ابن محمد الشطا الدمياطي يقول :
"
أترك الكسب حال كونك متجرداً عن الأهل والأولاد " [6] .
وذكر
السهروردي عن أبي يزيد البسطامي أنه قيل له : ما نراك تشتغل بالكسب ؟
فمن
أين معاشك ؟
فقال
: مولاي يرزق الكلب والخنزير تراه لا يرزق أبا يزيد [7] .
ويقول
السهروردي أيضا :
"
إذا كمل شغل الصوفي بالله وكمل زهده لكمال تقواه بحكم الوقت عليه بترك التسبّب [8] .
ونقل
عبد الرحمن الجامي الصوفي الفارسي الكبير عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لشخص أتريد
أن تكون وليا من أولياء الله ؟
فقال
: نعم .
فقال
له : لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة [9] .
وذكر
الفيتوري عن فتح الله بوراس القيرواني أنه كان من أهل التوكل ولا يكتسب من الدنيا
شيئا , ولا قبضت يده منجلا يحصد به الزرع , ولا جعل محراثا يحرث في أرض بادية ولا
حاضرة ولا وجبت عليه زكاة الفطر قط [10].
وقال
ابن عجيبة الحسني :
"
التصوف مبني على ثلاث خصال : التمسك بالفقر والافتقار , والتحقق بالبذل والإيثار ,
وترك التدبير والاختيار .... والصوفي الصادق علامته أن يفتقر بعد الغنى , ويذل بعد
العز , ويخفى بعد شهرة " [11] .
ونقل
الجامي عن إبراهيم الهروي أنه قال :
"
من أراد أن يبلغ كل الشرف فليختر سبعا على سبع : الفقر على الغنى , والجوع على
الشبع , والدون على المرتفع , والذل على العز , والتواضع على الكبر , والحزن على
الفرح , والموت على الحياة " [12] .
والآيات
والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا تعد ولا تحصى , نذكر منها ما رواه المقداد بن معد
يكرب أنه قال :
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أكل أحد طعاما قط
خيراً من أن يأكل من عمل يديه , وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل
يديه ) [13]
.
وروت
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( إن أطيب ما أكلتم , من كسبكم , وأن أولادكم من كسبكم ) [14] .
وقال
صلى الله عليه وسلم :
( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه , وولده من كسبه ) [15] .
وعن
رافع بن خديج أنه قال :
قيل
يا رسول الله , أي الكسب أطيب ؟
قال
: ( عمل الرجل بيده , وكل بيع مبرور ) [16] .
وعن
أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) [17] .
وأخيرا
ما رواه الزبير بن العوام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكفّ الله
بها وجهه خير له من أن يسأل الناس , أعطوه أو منعوه ) [18] .
وفي
هذا المعنى ما رواه أبو داود وابن ماجة أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله
عليه وسلم يسأله , فقال : أما في بيتك شيء ؟
فقال
: بلى , حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه , وقعب نشرت فيه من الماء , قال : أئتني بهما ,
فأتاه بهما , فأخذهما رسول الله بيده وقال : من يشتري
هذين ؟
قال
رجل : أنا آخذهما بدرهم , قال : من يزيد على درهم ؟
مرتين أو ثلاثا , قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين , فأعطاهما إياه . فأخذ الدرهمين
فأعطاهما الأنصاري , وقال : أشتر بأحدهما طعاما فأنبذه إلى أهلك , وأشتر بالآخر
قدوما , فأتني به , فأتاه به , فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ,
ثم قال : أذهب فاحتطب وبع , و لا أرينك خمسة عشر يوماً , فذهب الرجل يحتطب ويبيع ,
فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم فأشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما .
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا خير لك من أن
تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة , إن المسألة لاتصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع , أو لذي غرم
مفظع , أو لذي دم موجع ) [19] .
وعن
أبي سعيد أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ) [20] .
وعن
ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا حسد إلا في أثنتين : رجل أعطاه الله القرآن فهو يقوم به آناء
الليل وآناء النهار , ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار
) [21] .
وعن
أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة ) [22] .
وعن
أبي هريرة قال : يا رسول الله , أي الصدقة أفضل ؟
قال
: ( جهد المقل وأبدأ بمن تعول ) [23] .
فهذا
ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه في فضل الكسب والمكتسب , وهو أزهد
العالمين وأتقاهم لله , وقد أقر بذلك الطوسي حيث قال :
"
إن التكسب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , نقل عن سهل بن عبد الله أنه قال
: من طعن على لاكتساب فقد طعن على السنة , كما نقل عن عبد الله بن المبارك أنه كان
يقول : لا خير فيمن لا يذوق ذل المكاسب,
وأيضا مكاسبك لا تمنعك عن التفويض والتوكل إذا لم تضيعها في كسبك " [24] .
[1] عوراف المعارف للسهروردي ص
165 .
[2] كتاب اللمع للطوسي ص 162 .
[3] أيضا ص 184 .
[4] أيضا ص 524 .
[5] سورة آل عمران الآية 159 .
[6] كفاية الأتقياء ومنهاج
الأصفياء لأبي بكر محمد الشطا الدمياطي ط
دار الكتب العربية مصر .
[7] عوارف المعارف للسهروردي ص
159 , أيضا كفاية الأتقياء للدمياطي ص 28 .
[8] عوارف المعارف للسهروردي ص
153 .
[9] نفحات الأنس للجامي ص 6
طبعة فارسية إيران 1337 هجري قمري .
[10] الوصية الكبرى لعبد السلام
الأسمر الفيتوري ص 74 ط مكتبة النجاح
طرابلس 1976م .
[11] إيقاظ الهمم في شرح الحكم
لأبن عجيبة الحسني ص 4 ط البابي الحلبي القاهرة 1982م .
[12] نفحات الأنس للجامي ص 45 .
[13] رواه البخاري .
[14] رواه الترمذي والنسائي
وابن ماجه .
[15] رواه أبو داود ومثله في
الدارمي .
[16] رواه أحمد 8
[17] رواه الترمذي والحاكم
والدارمي واللفظ له .
[18] رواه البخاري .
[19] مشكاة المصابيح ج1 ص 581 .
[20] رواه مسلم .
[21] متفق عليه .
[22] متفق عليه .
[23] رواه أبو داود .
[24] أنظر كتاب اللمع للطوسي ص
259 ط دار الكتب الحديثة 1960 م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.